مختصر تفسير المعوذتين
مختصر تفسير المعوذتين
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
معنى أعوذ: ألتجئ، وأعتصم، وأتحرز.
والفلق: هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.
وتضمنت هذه السورة: المستعاذ به، المستعاذ منه، المستعيذ.
المستعاذ به: هو الله رب الفلق ورب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال الله في كتابه عمن استعاذ بخلقه: استعاذته زادته رهقاً: وهو الطغيان، واحتج أهل السنّة على المعتزلة في أن كلمات الله مخلوقة: بأن النبي استعاذ بقوله: قل أعوذ برب الفلق، وأعوذ بكلمات الله التامات، وهو لا يستعيذ بمخلوق أبداً.
المستعيذ: هو رسول الله، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
أما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:
الأول: الشر العام في قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل. وقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، أي من شر كل مخلوق فيه شر، وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلق الله؛ فإن الجنة ومافيها ليس فيها شر، وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خيرٌ محض.
والشر الثاني: شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وهذا خاص بعد عام، والغاسق: الليل إذا أقبل ودخل في كل شيء، والغسق: الظلمة، والوقوب: الدخول، والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل: هو أن الليل محل سلطان الأرواح الشريرة وفيه تنشر الشياطين، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين وبيوتهم.
وذكر – سبحانه – في هاتين الكلمتين الليل والنهار والنور والظلمة. فأمر الله عبداه أن يستعيذوا بربْ النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، وهو – سبحانه – يدعى بأسمائه الحسنى فيُسأل لكل مطلوب باسم يناسبه.
والشر الثالث: شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وهذا الشر هو شر السحر، فإن النفاثات هنْ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يُردن من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد نفخاً معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج، وقد تساعده الروح الشيطانية على أذى المسحور؛ فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني والقدري.
ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال – سبحانه -: مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ، بالتأنيث دون التذكير، وقد دلّ قوله – تعالى -: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وقالوا: إنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك. وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة واتفق عليه الفقهاء.
والسحر يؤثر: مرضاً وثقلاً وحلاً وقتلاً وحباً وبغضاً وغير ذلك من الآثار موجود يعرفه الناس، وكثير منهم قد علمه ذوقاً بما أصيب به. وقوله: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهراً – كما يقول هؤلاء – لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه، وأيضاً فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغيّر في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم فإذا غيّر إحساساً حتى يحصل المحبوب إليه بغيضاً والبغيض محبوباً وغير ذلك من التأثيرات.
وقد قال الله عن سحرة فرعون أنهم ” سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ” [الأعراف: 166]، فبين – سبحانه – أن أعينهم سُحرت، وذلك إما أن يكون لتغير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها؛ وهنا كما إذا جرّ من لا تراه حصيراً أو بسطاً فترى الحصير والبساط يَنْجَرُّ ولا ترى الجار، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا.
وأما ما يقوله المنكرون في أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة.
الشر الرابع: شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود، في نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله – تعالى -قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاهٍ عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعِذْ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد في الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقابله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
وفي الحديث الصحيح: رُقية جبريل النبي وفيها {باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك}، فذكر شر عين الحاسد ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ – كما ينظر على الأرض والجبل وغيره – لم يؤثر فيه شيء، وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسه الخبيثة وانسمت فصارت نفساً غضيبة خبيثة حاسدة، أثمرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وربما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما يؤثر سمها إذا عضت؛ فإنها تتكيّف بكيفية الغضب فتُحدِث فيها تلك الكيفية: السم فتؤثر في الملسوع، وربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر وذلك في نوع منها حتى يؤثر بمجرد النظر فتطمس البصر وتسقط الجَبلَ، كما ذكر النبي في أبتر وذي الطُّفتين منها: اقتلوهما، وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس. وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث في الأجسام للأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع؟ فالصنعة في الحقيقة لا والآلات وسائط.
ومن له فطنة وتَأمّل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأي عجائب وآيات دالة على وحدانية الله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالماً آخر يجري عليه أحكام أُخر يشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار؛ فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين.
والعائن والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء: فيشتركان في: أن كلاً منهما تتكيف نفسه وتوجه نحو من تقصده أذاه. والعائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين ومعاينته، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور. ويفترقان في: أن العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع فإذا كان لا ينفك من حسد صاحب بل ربما أصاب نفسه. وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديث مع تكيف نفسه بتلك الكيفية يؤثر في العين.
وقوله: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما أتاهم الله من فضله، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن. والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمها أيضاً، فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعاً.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً وهو شر ما خلق، وشر غاسق إذا وقب، فهذا نوعان. ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهما نوعان أيضاً لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقلَّ ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقربٍ إليه؛ إما يذبح باسمه أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحاً لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك، والساحر وإن لم يسمّ هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإنما سمّاه بما سمّاه به.
فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة، كما أقبلها بالنعم، أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجوداً لغير الله، فليسمه بما شاء، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداماً، وصدق هو من استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به، والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخداماً.
وتأمل تقييده – سبحانه – شر الحاسد بقوله: إِذَا حَسَدَ لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يترتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمة الله، وقيل للحسن البصري: (أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك أخوة يوسف)، فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهو لا يطيع نفسه، بل يعصيها خوفاً من الله وحياءً منه أن يكره نعمة على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضاً لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمنى الزوال.
والحسد ثلاث مراتب:
أحدها هذه وهي: تمنى زوال النعمة.
الثانية: تمنى استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يُحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب، فهذا حسد على شيء معدوم، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسدُ عدو نعمة الله وعدو عباده، محقوق عند الله وعند عباده.
الثالثة: حسد الغبطة: وهو تمنى أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة وقد قال – تعالى -: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]. وفي الصحيح عن النبي أنه قال: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس}. فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حبُّ خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع حبته لمن يغبطه وتمنى دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
وهذا السورة من أكبر أدوية المحسود؛ فإنها تتضمن: التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة، والله – تعالى -أعلم.
وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضاً: مستعاذاً به ومستعاذاً منه ومستعيذاً.
فأما المستعاذ به: فهو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدره التامة ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم، وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به، وأضافهم في الكلمة الثالثة إلى إلهيته، فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكاً في إلهيته، كما لا معه شريك في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن؛ يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفرع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره ـ فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخاف ولا يُرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه: إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، فهو ربك فلا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك، وهو الإله الحق إلا الناس الذي لا إله لهم سواه، فهو جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه. فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة.
ثم إنه – سبحانه – كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه، فيقول رب الناس ومَلِكَهُم وإلههم تحقيقاً بهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيها معنى الإيذان بالمغايرة، وقدْم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخّر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحان إنما هو إله من عبده و وحّده واتخذه إلهاً دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره.
وَوَسّط صفة المَلك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه لهم تابع لخلفه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية، فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاثة على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى، فإن الرب: هو القادر الخالق البارىء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي النافع الضار المقدم المؤخر، يهدي ويضل ويّسعد ويشقي ويعز ويذل، إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وأما المَلك: فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمر عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز الجبار المتكبر الخافض الرافع المعز الذل العظيم الجليل الوالي المتعالي الملك المقسط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك، وأما الإله: فهو الجامع لصفات الكمال وتعودت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح: إن الله أصله الإله، وإن اسم الله – تعالى -هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأسرار كلام الله – تعالى -أجلّ وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولى العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه.
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي، وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة الفلق تضمنت: الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد، وهو شر من خارج، وسورة الناس تضمنت، الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يُطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه.
فالشر الثاني: الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما، فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها؛ لأن أصلها كلها الوسوسة، وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يُحسن فيتحرز منه.
والوسواس: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
و الوسواس الخناس: وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، فالوسواس: الشيطان لأنه كثير الوسوسة، وأما الخناس فهو فعّال من خنس يخنس إذا توارى واختفى.
فإن العبد إذا أغفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس، والانخناس تأخر ورجوع معه اختفاء. قال قتادة: (الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذن ذكر العبد ربه خنس). ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضعٌ رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكره عادة و وضع رأسه يوسوس إليه، وجيء بلفظ الفعّال دون الفاعل، إعلامًا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه.
فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته. في أثر عن بعض السلف: (أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيه في السفر)؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعه، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلابد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يُعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا يعز عليها العبد. وجاء بناء الخناس على وزن الفعّال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كما ذكر الله انخنس فإذن غفل العبد عادة بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقًا لمعنيهما.
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولاً ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس. وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل العبد فلا يفارقه إلى الممات. ومن وسوسته أن يشغل القلب بحديثه عن صاحب موسى: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ [الكهف: 63].
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان؟! الموصوف بأنه الوسواس إلى آخر السورة، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره فإن قوله: الوسوسة يعم لك شر. و وصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا وهي الوسوس التي هي مبادىء الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغًا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها ويحسنها له فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصبر الإرادة جازمة فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، لهذا وصفة بهذا ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا؛ فمن شره أنه لصّ سارق لأموال الناس، فكل طعام أو شرا لم يُذكر اسم الله عليه فله فيه حض بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله؛ فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقى في قلوب أعدائه يقظة ومناماً أنه فعل كذا وكذا، ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه ـ إلا الله ـ أحدٌ من الناس فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجهد في كشف سرّه وفضيحته، فيغترّ العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته، وقلّ من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عُقدة تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري: {يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد} الحديث. ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح. ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبّطه وعوقه فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله. ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينّه من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده، ولا يمكن حصر أجناس شرّه فضلاً عن آحادها إذا كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة أجناس:
الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك بابن آدم استراح، وهو أول ما يريد من العبد، فإن يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي:
البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعدٍ وهو ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذن نال منه البدعة وجعله من أهلها صار نائباً له وداعياً من دعاته، فإن أعجز من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الثالثة وهي:
الكبائر: على اختلاف أنواعها: فهو أشد حرصاً على أ ن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالماً متبوعاً فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه، ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقرباً بزعمه إلى الله وهو تائب إبليس ولا يشعر، فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عنه هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي:
الصغائر: التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي: {إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض}، وذكر حديثاً معناه أن كل أحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا ناراً عظيمة فطبخوا. ولا يزال يسهل عليهم أمر الصغائر حتى يستهينوا بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالاً منه، فإن عجزه العبد في هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي:
اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب: بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد في هذه المرتبة وكان حافظاً لوقته شحيحاً به يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى المرتبة السادسة وهي:
أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه: ليفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفضل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقلّ من ينتبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعياً قوياً إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد يقول: هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين باباً من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيراً أعظم من تلك السبعين باباً وأجل وأفضل. وهذا لا تُتوصّل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد؛ يكون سبه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها لله وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ورسوله ولكتابه ولعبادة المؤمنين خاصتهم وعامتهم، وأكثر الخلق محجوبون، وذلك لا يخطر بقلوبهم.
فإذا أعجزه العبد في هذه المراتب سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والبديع والتحذير منه؛ ليشوش عليه قلبه وليمنع الناس من الانتفاع به، فحينئذ يلبس المؤمن لامه الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمل هذا الفصل وتدبره واجعله ميزاناً لك، تزن به نفسك وتزن به الناس. والله المستعان.
وتأمل السر في قوله – تعالى -: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز وبيته، فمنه يدخل الواردات إليه فيجتمع في الصدر ثم يلج في القلب، وفي القلب يخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، ومن فهم هذا فهم قوله: ” وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور “ِ [آل عمران: 154].
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ويلقى ما يريد إلقاءه إلى فهو موسوس في الصدر وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال – تعالى -: ” فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ” [طه: 120]، ولم يقل فيه؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه.
وقوله – تعالى -: ” مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ” اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، بم يتعلق فقال الفرَّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جداً لوجوه منها: أن لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنس، والناس: اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم.
والصواب القول الثاني وهو: أن قوله من الجنة بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان، إنس وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي يوسوس إلى الإنسي. فالموسوس نوعان: إنسي، وجني، فإن الوسوسة: هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي و وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم، على أن الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنس كما روى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي أنه قال: {إن الملائكة تحدث في العنان – والعنان: الغمام – بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة، فيقرها في أذن الكاهن، كما يقر القارورة، ويزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم}، فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال – تعالى -: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ” [الأنعام: 112].
ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال – تعالى -: “وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [الأعراف: 200]. والمراد بالسميع هنا سميع الإجابة، لا السمع العام.
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرًا عجيباً في الاستعاذة بالله من شره ودفعه، ولهذا قال النبي: {ما تعوذ المتعوذون بمثلهما}.
وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة.
وذكر: {أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسي وثلاثاً حين يصبح كفته من كل شيء}.
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة. ففي الصحيح عنه أنه قال: {إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان}.
الحرز الخامس: خاتم البقرة، فقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: {من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه}.
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: “إِلَيْهِ الْمَصِيرُ “ففي الترمذي في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: {من قرأ حم: المؤمن. إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح، حُفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبح}.
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ففي الصحيحين أن رسول الله قال: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك}. فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله – عز وجل -، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس، والخناس: الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله – عز وجل -.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به، ولا سيما عند الغضب والشهوة، فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم كما روى الترمذي عن النبي أنه قال: {ألا وإن الغضب جمرة في قلب ا بن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة}، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم فيه هذه الأبواب الأربعة.
فإن فضول النظر يدعو إلى استحسان وقوع المنظر غليه في القلب والاشتعال به. وفي المسند عن النبي أنه قال: {النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه} أو كما قال.
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي: {وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم}. وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار، توفي؛ فقال بعض الصحابة: (طوبى له) فقال النبي: {فما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه}.
وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف البطن، فإنه إذا امتلأ لم يبقَ فيه إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا، وكان السلف يحذرون من فضول النظر، وكانوا يقولون: ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وأما فضول الكلام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقله عن الطاعات وحسبك بهذا شراً. فكم من مصيبة جلبها الشبع وفضول الطعام. ولهذا جاء في بعض الآثار: (ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم) وقال النبي: {ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه}.
ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان، وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت، وطافت على أبواب الشهوات فإذا جاعت سكنت وذلت.
وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة! وكم زرعت من عداوة! وكم غرست في القلب من حزازة! ففضول المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كالغذاء ولا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه. هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر: وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني: من مخالطتهم كالدواء تحتاج إليه عند المرض فإذا كنت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.
القسم الثالث: من مخالطتهم كالدواء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف. ومنهم من مخالطته كوجع الضرس فإذا فارقك سكن الألم. ومنهم من مخالطته حمى الرِبْع: وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيضيرك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف منزلته فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها. ويذكر عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال: (ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر) ورأيت يوماً عند شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله التفت إلي وقال: مجالسه الثقيل حمى الرِبْع، ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل، فصارت لها عادة أو كما قال.
وبالجملة فمخالطة كل مخالف: حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته، فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله فرجاً ومخرجاً.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس – لا كثّرهم الله – هم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها، فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة.
إن جردت التوحيد، قالوا: تنقصت الأولياء الصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول، قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير، قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر، قالوا: أنت من المفتين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله ورسوله بإغضابهم وألا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإنه عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ *** فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ
وقد زادني حباً لنفسي بأنني *** بغيض إلى كل امرئ غير طائلُ
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم: وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرز بها من الشيطان، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه باب جهنم وفتح له باب الرحمة، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد العبد التقي، وعند الصباح يحمد القوم السري، والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه.
هذا آخر الكلام على السورتين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خاتم النبيين والمرسلين.
الإمام محمد بن عبد الوهاب
http://www.islamselect.com/mat/28891
—
فريق جوال الخير
معاً على طريق الخير
تواصل- استفسار- اقتراح
www.jawalk.ws
0558118112
jawalk4@hotmail.com
الإصدار السابع
ويمكنكم زيارة مقرنا في مكتب الدعوة بحي الروضة بالرياض
هاتف وفاكس:
012401132
مختصر تفسير المعوذتين
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ
معنى أعوذ: ألتجئ، وأعتصم، وأتحرز.
والفلق: هو نور الفجر الذي يطرد الظلام.
وتضمنت هذه السورة: المستعاذ به، المستعاذ منه، المستعيذ.
المستعاذ به: هو الله رب الفلق ورب الناس الذي لا ينبغي الاستعاذة إلا به ولا يستعاذ بأحد من خلقه، وقد قال الله في كتابه عمن استعاذ بخلقه: استعاذته زادته رهقاً: وهو الطغيان، واحتج أهل السنّة على المعتزلة في أن كلمات الله مخلوقة: بأن النبي استعاذ بقوله: قل أعوذ برب الفلق، وأعوذ بكلمات الله التامات، وهو لا يستعيذ بمخلوق أبداً.
المستعيذ: هو رسول الله، وكل من اتبعه إلى يوم القيامة.
أما المستعاذ منه فهو أربعة أقسام:
الأول: الشر العام في قوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وهذا يعم كل شر في الدنيا والآخرة وشر الشياطين من الإنس والجن وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل. وقوله: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، أي من شر كل مخلوق فيه شر، وليس المراد الاستعاذة من كل ما خلق الله؛ فإن الجنة ومافيها ليس فيها شر، وكذلك الملائكة والأنبياء فإنهم خيرٌ محض.
والشر الثاني: شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وهذا خاص بعد عام، والغاسق: الليل إذا أقبل ودخل في كل شيء، والغسق: الظلمة، والوقوب: الدخول، والسبب الذي لأجله أمر الله بالاستعاذة من شر الليل: هو أن الليل محل سلطان الأرواح الشريرة وفيه تنشر الشياطين، والشياطين إنما سلطانهم في الظلمات والمواضع المظلمة، ولهذا كانت القلوب المظلمة هي محل الشياطين وبيوتهم.
وذكر – سبحانه – في هاتين الكلمتين الليل والنهار والنور والظلمة. فأمر الله عبداه أن يستعيذوا بربْ النور الذي يقهر الظلمة ويزيلها، وهو – سبحانه – يدعى بأسمائه الحسنى فيُسأل لكل مطلوب باسم يناسبه.
والشر الثالث: شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ، وهذا الشر هو شر السحر، فإن النفاثات هنْ السواحر اللاتي يعقدن الخيوط، وينفثن على كل عقدة حتى ينعقد ما يُردن من السحر، والنفث هو النفخ مع ريق، وهو دون التفل وهو مرتبة بينهم، والنفث فعل الساحر، فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور واستعان بالأرواح الخبيثة، نفث في تلك العقد نفخاً معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نَفَس ممازج للشر مقترن بالريق الممازج، وقد تساعده الروح الشيطانية على أذى المسحور؛ فيقع فيه السحر بإذن الله الكوني والقدري.
ولما كان تأثير السحر من جهة الأنفس الخبيثة والأرواح الشريرة قال – سبحانه -: مِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ، بالتأنيث دون التذكير، وقد دلّ قوله – تعالى -: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ على تأثير السحر وأن له حقيقة، وقد أنكر ذلك طائفة من أهل الكلام وقالوا: إنه لا تأثير للسحر لا في مرض ولا قتل ولا حل ولا عقد. قالوا: وإنما ذلك تخيل لأعين الناظرين لا حقيقة له سوى ذلك. وهذا خلاف ما تواترت به الآثار عن الصحابة واتفق عليه الفقهاء.
والسحر يؤثر: مرضاً وثقلاً وحلاً وقتلاً وحباً وبغضاً وغير ذلك من الآثار موجود يعرفه الناس، وكثير منهم قد علمه ذوقاً بما أصيب به. وقوله: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ دليل على أن النفث يضر المسحور في حال غيبته عنه، ولو كان الضرر لا يحصل إلا بمباشرة البدن ظاهراً – كما يقول هؤلاء – لم يكن للنفاثات شر يستعاذ منه، وأيضاً فإذا جاز على الساحر أن يسحر أعين جميع الناظرين مع كثرتهم حتى يروا الشيء بخلاف ما هو به، مع أن هذا تغيّر في إحساسهم، فما الذي يحيل تأثيره في تغيير بعض أعراضهم وطباعهم وقواهم فإذا غيّر إحساساً حتى يحصل المحبوب إليه بغيضاً والبغيض محبوباً وغير ذلك من التأثيرات.
وقد قال الله عن سحرة فرعون أنهم ” سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ ” [الأعراف: 166]، فبين – سبحانه – أن أعينهم سُحرت، وذلك إما أن يكون لتغير حصل في المرئي وهو الحبال والعصي، مثل أن يكون السحرة استعانت بأرواح حركتها وهي الشياطين، فظنوا أنها تحركت بأنفسها؛ وهنا كما إذا جرّ من لا تراه حصيراً أو بسطاً فترى الحصير والبساط يَنْجَرُّ ولا ترى الجار، فهكذا حال الحبال والعصي قلبتها الشياطين فظن الرائي أنها انقلبت بأنفسها، والشياطين هم الذين يقلبونها. وإما أن يكون التغيير حدث في الرائي حتى رأى الحبال والعصي تتحرك وهي ساكنة في أنفسها. ولا ريب أن الساحر يفعل هذا وهذا.
وأما ما يقوله المنكرون في أنهم فعلوا في الحبال والعصي ما أوجب حركتها ومشيها مثل الزئبق وغيره حتى سعت فهذا باطل من وجوه كثيرة.
الشر الرابع: شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، وقد دلّ القرآن والسنة على أن نفس حسد الحاسد يؤذي المحسود، فنفس حسده شر يتصل بالمحسود، في نفسه وعينه وإن لم يؤذه بيده ولا لسانه، فإن الله – تعالى -قال: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، فحقق الشر منه عند صدور الحسد، والقرآن ليس فيه لفظة مهملة لكن قد يكون الرجل في طبعه الحسد وهو غافل عن المحسود ولاهٍ عنه فإذا خطر على قلبه انبعث نار الحسد من قلبه فيتأذى المحسود بمجرد ذلك، فإن لم يستعِذْ بالله ويتحصن به ويكون له أوراد في الأذكار والدعوات، والتوجه إلى الله والإقبال عليه بحيث يدفع عنه من شره بمقدار توجهه وإقابله على الله وإلا ناله شر الحاسد ولا بد.
وفي الحديث الصحيح: رُقية جبريل النبي وفيها {باسم الله أرقيك، من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عين حاسد. الله يشفيك}، فذكر شر عين الحاسد ومعلوم أنها لا تؤثر بمجردها إذ لو نظر إليه نظر لاهٍ ساهٍ – كما ينظر على الأرض والجبل وغيره – لم يؤثر فيه شيء، وأما إذا نظر إليه نظر من قد تكيّفت نفسه الخبيثة وانسمت فصارت نفساً غضيبة خبيثة حاسدة، أثمرت بها تلك النظرة فأثرت في المحسود بحسب ضعفه وقوة نفس الحاسد، فربما أمرضه، وربما قتله، والتجارب بها عند الخاصة والعامة أكثر من أن تذكر.
وهذه العين إنما تؤثر بواسطة النفس الخبيثة، وهي بمنزلة الحية إنما يؤثر سمها إذا عضت؛ فإنها تتكيّف بكيفية الغضب فتُحدِث فيها تلك الكيفية: السم فتؤثر في الملسوع، وربما قويت حتى تؤثر بمجرد النظر وذلك في نوع منها حتى يؤثر بمجرد النظر فتطمس البصر وتسقط الجَبلَ، كما ذكر النبي في أبتر وذي الطُّفتين منها: اقتلوهما، وهذا علم لا يعرفه إلا خواص الناس. وهل الانفعال والتأثير وحدوث ما يحدث في الأجسام للأرواح، والأجسام آلتها بمنزلة الصانع؟ فالصنعة في الحقيقة لا والآلات وسائط.
ومن له فطنة وتَأمّل أحوال الأرواح وتأثيراتها وتحريكها الأجسام رأي عجائب وآيات دالة على وحدانية الله وعظم ربوبيته، وأن ثم عالماً آخر يجري عليه أحكام أُخر يشهد آثارها وأسبابها غيب عن الأبصار؛ فتبارك الله رب العالمين وأحسن الخالقين.
والعائن والحاسد يشتركان في شيء ويفترقان في شيء: فيشتركان في: أن كلاً منهما تتكيف نفسه وتوجه نحو من تقصده أذاه. والعائن تتكيف نفسه عند مقابلة العين ومعاينته، والحاسد يحصل حسده في الغيبة والحضور. ويفترقان في: أن العائن قد يعين من لا يحسده من حيوان أو زرع فإذا كان لا ينفك من حسد صاحب بل ربما أصاب نفسه. وسببه الإعجاب بالشيء واستعظامه، فإن رؤيته للشيء رؤية تعجب وتحديث مع تكيف نفسه بتلك الكيفية يؤثر في العين.
وقوله: وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ يعم الحاسد من الجن والإنس، فإن الشيطان وحزبه يحسدون المؤمنين على ما أتاهم الله من فضله، ولكن الوسواس أخص بشياطين الجن. والحسد أخص بشياطين الإنس، والوسواس يعمها أيضاً، فكلا الشيطانين حاسد موسوس فالاستعاذة من شر الحاسد يعمهما جميعاً.
فقد اشتملت السورة على الاستعاذة من كل شر في العالم، وتضمنت شروراً أربعة يستعاذ منها: شراً عاماً وهو شر ما خلق، وشر غاسق إذا وقب، فهذا نوعان. ثم ذكر شر الساحر والحاسد وهما نوعان أيضاً لأنهما من شر النفس الشريرة وأحدهما يستعين بالشيطان ويعبده، وهو الساحر، وقلَّ ما يتأتى السحر بدون نوع عبادة الشيطان وتقربٍ إليه؛ إما يذبح باسمه أو يذبح يقصد به هو، فيكون ذبحاً لغير الله، وبغير ذلك من أنواع الشرك، والساحر وإن لم يسمّ هذا عبادة للشيطان فهو عبادة له وإنما سمّاه بما سمّاه به.
فإن الشرك والكفر هو شرك وكفر لحقيقته ومعناه، لا لاسمه ولفظه، فمن سجد لمخلوق، وقال: ليس هذا بسجود له، هذا خضوع وتقبيل الأرض بالجبهة، كما أقبلها بالنعم، أو هذا إكرام، لم يخرج بهذه الألفاظ عن كونه سجوداً لغير الله، فليسمه بما شاء، وكذلك من ذبح للشيطان ودعاه واستعاذ به وتقرب إليه فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة، بل يسميه استخداماً، وصدق هو من استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه، وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به، والمقصود أن هذا عبادة منه للشيطان وإن سماه استخداماً.
وتأمل تقييده – سبحانه – شر الحاسد بقوله: إِذَا حَسَدَ لأن الرجل قد يكون عنده حسد، ولكن لا يترتب عليه أذى لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده، بل يجد في قلبه شيئاً من ذلك ولا يعامل أخاه إلا بما يحبه الله، فهذا لا يكاد يخلو منه أحد إلا من عصمة الله، وقيل للحسن البصري: (أيحسد المؤمن؟ قال: ما أنساك أخوة يوسف)، فالرجل إذا كان في قلبه حسد لكن يخفيه ولا يترتب عليه أذى بوجه ما لا بقلبه ولا بلسانه ولا بيده لا يعامل أخاه إلا بما يحب الله، فهو لا يطيع نفسه، بل يعصيها خوفاً من الله وحياءً منه أن يكره نعمة على عباده، فيرى ذلك مخالفة لله وبغضاً لما يحب الله، فهو يجاهد نفسه على دفع ذلك، ويلزمها الدعاء للمحسود، بخلاف ما إذا حقق ذلك وحسد ورتب على حسده مقتضاه من الأذى بالقلب واللسان والجوارح فهذا الحسد المذموم، هذا كله حسد تمنى الزوال.
والحسد ثلاث مراتب:
أحدها هذه وهي: تمنى زوال النعمة.
الثانية: تمنى استصحاب عدم النعمة فهو يكره أن يُحدث الله لعبده نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من جهله أو فقره أو قلة دينه، فهو يتمنى دوام ما هو فيه من نقص أو عيب، فهذا حسد على شيء معدوم، والأول حسد على شيء محقق، وكلاهما حاسدُ عدو نعمة الله وعدو عباده، محقوق عند الله وعند عباده.
الثالثة: حسد الغبطة: وهو تمنى أن يكون له مثل حال المحسود من غير أن تزول النعمة عنه فهذا لا بأس به ولا يعاب صاحبه، بل هذا قريب من المنافسة وقد قال – تعالى -: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين: 26]. وفي الصحيح عن النبي أنه قال: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها للناس}. فهذا حسد غبطة، الحامل لصاحبه عليه حبُّ خصال الخير والتشبه بأهلها والدخول في جملتهم، فيحدث له المنافسة والمسارعة مع حبته لمن يغبطه وتمنى دوام نعمة الله عليه، فهذا لا يدخل في الآية بوجه ما.
وهذا السورة من أكبر أدوية المحسود؛ فإنها تتضمن: التوكل على الله والالتجاء إليه والاستعاذة به من شر حاسد النعمة، والله – تعالى -أعلم.
وأما سورة الناس فقد تضمنت أيضاً: مستعاذاً به ومستعاذاً منه ومستعيذاً.
فأما المستعاذ به: فهو الله رب الناس ملك الناس إله الناس، فذكر ربوبيته للناس وملكه إياهم وإلهيته لهم، ولا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان، فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم وتربيتهم وتدبيرهم وإصلاحهم مما يفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم، وذلك يتضمن قدره التامة ورحمته الواسعة، وعلمه بتفاصيل أحوالهم وبإجابة دعواتهم وكشف كرباتهم، وأضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكهم الحق الذي إليه مفزعهم في الشدائد والنوائب، فلا صلاح ولا قيام إلا به، وأضافهم في الكلمة الثالثة إلى إلهيته، فهو إلههم الحق ومعبودهم الذي لا إله سواه ولا معبود لهم غيره، فكما أنه وحده هو ربهم ومليكهم لم يشاركه في ربوبيته ولا في ملكه أحد فكذلك هو وحده إلههم ومعبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكاً في إلهيته، كما لا معه شريك في ربوبيته وملكه.
وهذه طريقة القرآن؛ يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، فإذا كان هو ربنا ومليكنا فلا مفرع لنا في الشدائد سواه، ولا ملجأ لنا منه إلا إليه، ولا معبود لنا غيره ـ فلا ينبغي أن يُدعى ولا يُخاف ولا يُرجى ولا يحب سواه، ولا يذل لغيره ولا يخضع لسواه، ولا يتوكل إلا عليه؛ لأن من ترجوه وتخافه وتدعوه: إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك، فهو ربك فلا رب لك سواه، أو تكون مملوكه وعبده الحق، فهو ملك الناس حقًا وكلهم عبيده ومماليكه، أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك وحياتك، وهو الإله الحق إلا الناس الذي لا إله لهم سواه، فهو جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، ولا يستنصروا بسواه. فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للاستعاذة من أعدى الأعداء وأعظمهم عداوة.
ثم إنه – سبحانه – كرر الاسم الظاهر ولم يوقع المضمر موقعه، فيقول رب الناس ومَلِكَهُم وإلههم تحقيقاً بهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه ولم يعطف بالواو لما فيها معنى الإيذان بالمغايرة، وقدْم الربوبية لعمومها وشمولها لكل مربوب، وأخّر الإلهية لخصوصها؛ لأنه سبحان إنما هو إله من عبده و وحّده واتخذه إلهاً دون غيره، فمن لم يعبده ويوحده فليس بإلهه، وإن كان في الحقيقة لا إله سواه ولكن ترك إلهه الحق واتخذ إلهًا غيره.
وَوَسّط صفة المَلك بين الربوبية والإلهية؛ لأن الملك هو المتصرف بقوله وأمره، المطاع إذا أمر، فملكه لهم تابع لخلفه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، وكونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه وملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية وقهرهم بالملك واستعبدهم بالإلهية، فتأمل هذه الجلالة وهذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، وأحسن سياق: رب الناس، ملك الناس، إله الناس.
وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاثة على جميع قواعد الإيمان، وتضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى، أما تضمنها لمعاني أسمائه الحسنى، فإن الرب: هو القادر الخالق البارىء المصور الحي القيوم العليم السميع البصير المحسن المنعم الجواد المعطي النافع الضار المقدم المؤخر، يهدي ويضل ويّسعد ويشقي ويعز ويذل، إلى غير ذلك من معاني الربوبية، وأما المَلك: فهو الآمر الناهي المعز المذل الذي يصرف أمر عباده كما يحب ويقلبهم كما يشاء، فهو العزيز الجبار المتكبر الخافض الرافع المعز الذل العظيم الجليل الوالي المتعالي الملك المقسط الجامع، إلى غير ذلك من الأسماء العائدة إلى الملك، وأما الإله: فهو الجامع لصفات الكمال وتعودت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى، ولهذا كان القول الصحيح: إن الله أصله الإله، وإن اسم الله – تعالى -هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وأسرار كلام الله – تعالى -أجلّ وأعظم من أن تدركها عقول البشر، وإنما غاية أولى العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه.
وهذه السورة مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي، وهو الشر الداخل في الإنسان الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة، فسورة الفلق تضمنت: الاستعاذة من ظلم الغير بالسحر والحسد، وهو شر من خارج، وسورة الناس تضمنت، الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر من داخل.
فالشر الأول: لا يدخل تحت التكليف ولا يُطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كسبه.
فالشر الثاني: الذي في سورة الناس يدخل تحت التكليف، ويتعلق به النهي، فهذا شر المعائب، والأول شر المصائب، والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما، فتضمنت سورة الناس الاستعاذة من شر العيوب كلها؛ لأن أصلها كلها الوسوسة، وأصل الوسوسة الحركة أو الصوت الخفي الذي لا يُحسن فيتحرز منه.
والوسواس: الإلقاء الخفي في النفس إما بصوت خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد.
و الوسواس الخناس: وصفان لموصوف محذوف، وهو الشيطان، فالوسواس: الشيطان لأنه كثير الوسوسة، وأما الخناس فهو فعّال من خنس يخنس إذا توارى واختفى.
فإن العبد إذا أغفل عن ذكر الله جثم على قلبه الشيطان، وبذر فيه الوساوس التي هي أصل الذنوب كلها، فإذا ذكر العبد ربه واستعاذ به انخنس، والانخناس تأخر ورجوع معه اختفاء. قال قتادة: (الخناس: له خرطوم كخرطوم الكلب في صدر الإنسان، فإذن ذكر العبد ربه خنس). ويقال: رأسه كرأس الحية، وهو واضعٌ رأسه على ثمرة القلب يمنّيه ويحدثه، فإذا ذكر الله خنس وإذا لم يذكره عادة و وضع رأسه يوسوس إليه، وجيء بلفظ الفعّال دون الفاعل، إعلامًا بشدة هروبه ورجوعه وعظم نفوره عند ذكر الله وأن ذلك دأبه.
فذكر الله يقمع الشيطان ويؤلمه ويؤذيه، ولهذا كان شيطان المؤمن هزيلاً لأنه يعذبه بذكر الله وطاعته. في أثر عن بعض السلف: (أن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي الرجل بعيه في السفر)؛ لأنه كلما اعترضه صبَّ عليه سياط الذكر والتوجه والاستغفار والطاعة، فشيطانه معه في عذاب شديد. وأما شيطان الفاجر فهو معه في راحة ودعه، ولهذا يكون قويًا عاتيًا شديدًا، فمن لم يعذب شيطانه في هذه الدار بذكر الله وتوحيده وطاعته، عذبه شيطانه في الآخرة بعذاب النار، فلابد لكل أحد أن يعذب شيطانه أو يُعذبه شيطانه.
وتأمل كيف جاء بناء الوسواس مكررًا لتكريره الوسوسة الواحدة مرارًا يعز عليها العبد. وجاء بناء الخناس على وزن الفعّال الذي يتكرر منه نوع الفعل؛ لأنه كما ذكر الله انخنس فإذن غفل العبد عادة بالوسوسة. فجاء بناء اللفظين مطابقًا لمعنيهما.
وقوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ، صفة ثالثة للشيطان، فذكر وسوسته أولاً ثم ذكر محلها ثانيًا وأنها في صدور الناس. وقد جعل الله للشيطان دخولاً في جوف العبد ونفوذًا إلى قلبه وصدره، فهو يجري منه مجرى الدم وقد وكل العبد فلا يفارقه إلى الممات. ومن وسوسته أن يشغل القلب بحديثه عن صاحب موسى: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِي إِلَّا الشَّيْطَانُ [الكهف: 63].
وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان؟! الموصوف بأنه الوسواس إلى آخر السورة، ولم يقل من شر وسوسته لتعم الاستعاذة جميع شره فإن قوله: الوسوسة يعم لك شر. و وصفه بأعظم صفاته وأشدها شرًا وهي الوسوس التي هي مبادىء الإرادة؛ فإن القلب يكون فارغًا من الشر فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله فيصوره لنفسه ويشهيه فيصير شهوة ويزينها ويحسنها له فتصير إرادة، ثم لا يزال يمثل ويشهي وينسي ضررها ويطوي عنه سوء عاقبتها فلا يرى إلا التذاذه بالمعصية فقط وينسى ما وراء ذلك، فتصبر الإرادة جازمة فيشتد الحرص من القلب، فلا يزال الشيطان بالعبد يقوده إلى الذنب وينظم شمل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة.
فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة، لهذا وصفة بهذا ليكون الاستعاذة من شرها أهم، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا؛ فمن شره أنه لصّ سارق لأموال الناس، فكل طعام أو شرا لم يُذكر اسم الله عليه فله فيه حض بالسرقة والخطف، وكذلك يبيت في البيت الذي لم يذكر فيه اسم الله؛ فيأكل طعام الإنس بغير إذنهم ويبيت في بيوتهم بغير أمرهم، ويدل على عوراتهم فيأمر العبد بالمعصية ثم يلقى في قلوب أعدائه يقظة ومناماً أنه فعل كذا وكذا، ومن هذا أن العبد يفعل الذنب لا يطلع عليه ـ إلا الله ـ أحدٌ من الناس فيصبح والناس يتحدثون به، وما ذاك إلا لأن الشيطان يجهد في كشف سرّه وفضيحته، فيغترّ العبد ويقول هذا ذنب لم يره إلا الله، ولم يشعر بأن عدوه ساع في إذاعته، وقلّ من يتفطن من الناس لهذه الدقيقة.
ومن شره أنه يعقد على رأس العبد إذا نام عُقدة تمنعه من اليقظة، كما في صحيح البخاري: {يعقد الشيطان على قافية أحدكم إذا هو نائم ثلاث عقد} الحديث. ومن شره أنه يبول في أذن العبد حتى ينام إلى الصباح. ومن شره أنه قعد لابن آدم بطرق الخير كلها، فما من طريق من طرق الخير إلا والشيطان مرصد عليه يمنعه أن يسلكه، فإن خالفه وسلكه ثبّطه وعوقه فإن عمله وفرغ منه سعى فيما يبطله. ويكفي من شره أنه أقسم ليأتينّه من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم.
فإذا كان هذا شأنه وهمته في الشر فلا خلاص منه إلا بمعونة الله وتأييده، ولا يمكن حصر أجناس شرّه فضلاً عن آحادها إذا كل شر في العالم فهو السبب فيه، ولكن ينحصر شره في ستة أجناس:
الشر الأول: الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله، فإذا ظفر بذلك بابن آدم استراح، وهو أول ما يريد من العبد، فإن يئس منه من ذلك وكان ممن سبق له الإسلام في بطن أمه نقله إلى المرتبة الثانية من الشر وهي:
البدعة: وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها متعدٍ وهو ذنب لا يتاب منه، وهي مخالفة لدعوة الرسل ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، فإذن نال منه البدعة وجعله من أهلها صار نائباً له وداعياً من دعاته، فإن أعجز من هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الثالثة وهي:
الكبائر: على اختلاف أنواعها: فهو أشد حرصاً على أ ن يوقعه فيها ولا سيما إن كان عالماً متبوعاً فهو حريص على ذلك لينفر الناس عنه، ثم يشيع من ذنوبه في الناس ويستنيب منهم من يشيعها تقرباً بزعمه إلى الله وهو تائب إبليس ولا يشعر، فإن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم، هذا إذا أحبوا إشاعتها فكيف إذا تولوا هم إشاعتها، فإن عجز عنه هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الرابعة وهي:
الصغائر: التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها كما قال النبي: {إياكم ومحقرات الذنوب فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض}، وذكر حديثاً معناه أن كل أحد منهم جاء بعود حطب حتى أوقدوا ناراً عظيمة فطبخوا. ولا يزال يسهل عليهم أمر الصغائر حتى يستهينوا بها، فيكون صاحب الكبيرة الخائف أحسن حالاً منه، فإن عجزه العبد في هذه المرتبة نقله إلى المرتبة الخامسة وهي:
اشتغاله بالمباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب: بل عاقبتها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها، فإن أعجزه العبد في هذه المرتبة وكان حافظاً لوقته شحيحاً به يعلم أنه مقدار أنفاسه وانقطاعها وما يقابلها من النعيم والعذاب، نقله إلى المرتبة السادسة وهي:
أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه: ليفوته ثواب العمل الفاضل، فيأمره بفضل الخير المفضول ويحضه عليه إذا تضمن ترك ما هو أفضل منه، وقلّ من ينتبه لهذا من الناس، فإنه إذا رأى فيه داعياً قوياً إلى نوع من الطاعة فإنه لا يكاد يقول: هذا الداعي من الشيطان، فإن الشيطان لا يأمر بخير، ويرى أن هذا خير ولم يعلم أن الشيطان يأمره بسبعين باباً من أبواب الخير، إما ليتوصل بها إلى باب واحد من الشر، وإما ليفوت بها خيراً أعظم من تلك السبعين باباً وأجل وأفضل. وهذا لا تُتوصّل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد؛ يكون سبه تجريد متابعة الرسول وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله وأحبها لله وأنفعها للعبد، وأعمها نصيحة لله ورسوله ولكتابه ولعبادة المؤمنين خاصتهم وعامتهم، وأكثر الخلق محجوبون، وذلك لا يخطر بقلوبهم.
فإذا أعجزه العبد في هذه المراتب سلط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع الأذى والتكفير والبديع والتحذير منه؛ ليشوش عليه قلبه وليمنع الناس من الانتفاع به، فحينئذ يلبس المؤمن لامه الحرب ولا يضعها عنه إلى الموت، ومتى وضعها أسر وأصيب فلا يزال في جهاد حتى يلقى الله. فتأمل هذا الفصل وتدبره واجعله ميزاناً لك، تزن به نفسك وتزن به الناس. والله المستعان.
وتأمل السر في قوله – تعالى -: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ولم يقل قلوبهم، والصدر هو ساحة القلب، وهو بمنزلة الدهليز وبيته، فمنه يدخل الواردات إليه فيجتمع في الصدر ثم يلج في القلب، وفي القلب يخرج الأوامر والإرادات إلى الصدر، ثم تتفرق على الجنود، ومن فهم هذا فهم قوله: ” وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُور “ِ [آل عمران: 154].
فالشيطان يدخل إلى ساحة القلب وبيته ويلقى ما يريد إلقاءه إلى فهو موسوس في الصدر وسوسة واصلة إلى القلب، ولهذا قال – تعالى -: ” فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ” [طه: 120]، ولم يقل فيه؛ لأن المعنى أنه ألقى إليه ذلك وأوصله إليه فدخل في قلبه.
وقوله – تعالى -: ” مِنْ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ” اختلف الناس في هذا الجار والمجرور، بم يتعلق فقال الفرَّاء وجماعة: هو بيان للناس الموسوس في صدورهم أي أن الموسوس في صدورهم قسمان: إنس وجن، فالوسواس يوسوس للجني كما يوسوس للإنسي، وهذا القول ضعيف جداً لوجوه منها: أن لم يقم دليل على أن الجني يوسوس في صدر الجني ويدخل فيه كما يدخل في الإنس، والناس: اسم لبني آدم فلا يدخل الجن في مسماهم.
والصواب القول الثاني وهو: أن قوله من الجنة بيان للذي يوسوس، وأنهم نوعان، إنس وجن، فالجني يوسوس في صدر الإنسي والإنسي يوسوس إلى الإنسي. فالموسوس نوعان: إنسي، وجني، فإن الوسوسة: هي الإلقاء الخفي في القلب وهذا مشترك بين الجن والإنس وإن كان إلقاء الإنسي و وسوسته إنما هي بواسطة الأذن، والجني لا يحتاج إلى الواسطة؛ لأنه يدخل في ابن آدم ويجري منه مجرى الدم، على أن الجني قد يتمثل ويوسوس إليه في أذنه كالإنس كما روى البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – عن النبي أنه قال: {إن الملائكة تحدث في العنان – والعنان: الغمام – بالأمر يكون في الأرض فتسمع الشياطين الكلمة، فيقرها في أذن الكاهن، كما يقر القارورة، ويزيدون معها مائة كذبة من عند أنفسهم}، فهذه وسوسة وإلقاء من الشيطان بواسطة الأذن، ونظير اشتراكهما في هذه الوسوسة اشتراكهما في الوحي الشيطاني، قال – تعالى -: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ” [الأنعام: 112].
ونختم الكلام على السورتين في ذكر قاعدة نافعة فيما يعتصم به العبد من الشيطان، ويحترز به منه وذلك عشرة أسباب:
أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، قال – تعالى -: “وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنْ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” [الأعراف: 200]. والمراد بالسميع هنا سميع الإجابة، لا السمع العام.
الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين، فإن لهما تأثيرًا عجيباً في الاستعاذة بالله من شره ودفعه، ولهذا قال النبي: {ما تعوذ المتعوذون بمثلهما}.
وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم، وأمر عقبة بن عامر أن يتعوذ بهما دبر كل صلاة.
وذكر: {أن من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يمسي وثلاثاً حين يصبح كفته من كل شيء}.
الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.
الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة. ففي الصحيح عنه أنه قال: {إن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان}.
الحرز الخامس: خاتم البقرة، فقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال: {من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه}.
الحرز السادس: أول سورة حم المؤمن إلى قوله: “إِلَيْهِ الْمَصِيرُ “ففي الترمذي في حديث عبد الرحمن بن أبي بكر بن أبي مليكة عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: {من قرأ حم: المؤمن. إلى قوله: إِلَيْهِ الْمَصِيرُ وآية الكرسي حين يصبح، حُفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبح}.
وعبد الرحمن المليكي، وإن كان قد تكلم فيه من قبل حفظه، فالحديث له شواهد في قراءة آية الكرسي وهو محتمل على غرابته.
الحرز السابع: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ففي الصحيحين أن رسول الله قال: {من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في اليوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت حرزاً له من الشيطان يومه ذلك}. فهذا حرز عظيم النفع جليل الفائدة يسير سهل على من يسره الله عليه.
الحرز الثامن: وهو من أنفع الحروز من الشيطان: كثرة ذكر الله – عز وجل -، وهذا بعينه هو الذي دلت عليه سورة الناس، فإنه وصف الشيطان فيها بأنه الخناس، والخناس: الذي إذا ذكر العبد ربه انخنس، فإذا غفل عن ذكر الله التقم القلب وألقى إليه الوساوس، فما أحرز العبد نفسه من الشيطان بمثل ذكر الله – عز وجل -.
الحرز التاسع: الوضوء والصلاة وهذا من أعظم ما يتحرز العبد به، ولا سيما عند الغضب والشهوة، فإنها نار تصلى في قلب ابن آدم كما روى الترمذي عن النبي أنه قال: {ألا وإن الغضب جمرة في قلب ا بن آدم فما أطفأ العبد جمرة الغضب بمثل الوضوء والصلاة فإن الصلاة إذا وقعت بخشوعها والإقبال على الله فيها أذهبت أثر ذلك جملة}، وهذا أمر تجربته تغني عن إقامة الدليل.
الحرز العاشر: إمساك فضول النظر والكلام والطعام ومخالطة الناس، فإن الشيطان إنما ينال غرضه من ابن آدم فيه هذه الأبواب الأربعة.
فإن فضول النظر يدعو إلى استحسان وقوع المنظر غليه في القلب والاشتعال به. وفي المسند عن النبي أنه قال: {النظر سهم مسموم من سهام إبليس فمن غض بصره أورثه الله حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه} أو كما قال.
وأما فضول الكلام فإنها تفتح للعبد أبواباً من الشر كلها مداخل للشيطان فإمساك فضول الكلام يسد عنه تلك الأبواب وكم من حرب جرتها كلمة واحدة، وقد قال النبي: {وهل يكب الناس على مناخرهم في النار إلا حصائد ألسنتهم}. وفي الترمذي أن رجلاً من الأنصار، توفي؛ فقال بعض الصحابة: (طوبى له) فقال النبي: {فما يدريك لعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه}.
وأكثر المعاصي إنما تولد من فضول الكلام والنظر، وهما أوسع مداخل الشيطان، فإن جارحتيهما لا يملان ولا يسأمان بخلاف البطن، فإنه إذا امتلأ لم يبقَ فيه إرادة للطعام.
وأما العين واللسان فلو تركا لم يفترا، وكان السلف يحذرون من فضول النظر، وكانوا يقولون: ما من شيء أحوج إلى طول السجن من اللسان.
وأما فضول الكلام: فهو داع إلى أنواع كثيرة من الشر، فإنه يحرك الجوارح إلى المعاصي ويثقله عن الطاعات وحسبك بهذا شراً. فكم من مصيبة جلبها الشبع وفضول الطعام. ولهذا جاء في بعض الآثار: (ضيقوا مجاري الشيطان بالصوم) وقال النبي: {ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه}.
ولو لم يكن في الامتلاء من الطعام إلا أنه يدعو إلى الغفلة عن ذكر الله، فإذا غفل القلب عن الذكر ساعة واحدة غلبه الشيطان، وشهاه وهام به في كل واد فإن النفس إذا شبعت تحركت، وطافت على أبواب الشهوات فإذا جاعت سكنت وذلت.
وأما فضول المخالطة: فهي الداء العضال الجالب لكل شر وكم سلبت المخالطة والمعاشرة من نعمة! وكم زرعت من عداوة! وكم غرست في القلب من حزازة! ففضول المخالطة بمقدار الحاجة، ويجعل الناس فيها أربعة أقسام متى خلط أحد الأقسام بالآخر، ولم يميز بينهما دخل عليه الشر.
أحدها: من مخالطته كالغذاء ولا يستغنى عنه في اليوم والليلة، فإذا أخذ حاجته منه ترك الخلطة، ثم إذا احتاج إليه خالطه. هكذا على الدوام، وهذا الضرب أعز من الكبريت الأحمر: وهم العلماء بالله وأمره ومكائد عدوه وأمراض القلوب وأدويتها، الناصحون لله ولكتابه ولرسوله ولخلقه، فهذا الضرب من مخالطتهم الربح كله.
القسم الثاني: من مخالطتهم كالدواء تحتاج إليه عند المرض فإذا كنت صحيحاً فلا حاجة لك في خلطته، وهم من لا تستغني عن مخالطتهم في مصلحة المعاش، وقيام ما أنت تحتاج إليه في أنواع المعاملات والمشاركات والاستشارة.
القسم الثالث: من مخالطتهم كالدواء على اختلاف أنواعه وقوته وضعفه فمنهم من مخالطته كالداء العضال، وهو من لا تربح عليه في دين ولا دنيا ومع ذلك فلا بد أن تخسر عليه الدين والدنيا أو أحدهما، فهذا إذا تمكنت مخالطته واتصلت، فهي مرض الموت المخوف. ومنهم من مخالطته كوجع الضرس فإذا فارقك سكن الألم. ومنهم من مخالطته حمى الرِبْع: وهو الثقيل البغيض الذي لا يحسن أن يتكلم فيضيرك ولا يحسن أن ينصت فيستفيد منك، ولا يعرف منزلته فيضعها في منزلتها بل إن تكلم فكلامه كالعصى تنزل على قلوب السامعين مع إعجابه بكلامه، وإن سكت فأثقل من نصف الرحى العظيمة التي لا يطاق حملها. ويذكر عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال: (ما جلس إلى جنبي ثقيل إلا وجدت الجانب الذي هو فيه أثقل من الجانب الآخر) ورأيت يوماً عند شيخنا قدس الله روحه رجلاً من هذا الضرب والشيخ يحمله وقد ضعف القوى عن حمله التفت إلي وقال: مجالسه الثقيل حمى الرِبْع، ثم قال: ولكن أدمنت أرواحنا على الحمل، فصارت لها عادة أو كما قال.
وبالجملة فمخالطة كل مخالف: حمى الربع، ومن نكد الدنيا على العبد أن يبتلى بواحد من هذا الضرب، وليس له بد من معاشرته ومخالطته، فليعاشره بالمعروف حتى يجعل الله فرجاً ومخرجاً.
القسم الرابع: من مخالطته الهلك كله ومخالطته بمنزلة أكل السم، فإذا اتفق لأكله ترياق وإلا فأحسن الله فيه العزاء. وما أكثر هذا الضرب في الناس – لا كثّرهم الله – هم أهل البدع والضلالة الصادون عن سنة رسول الله الداعون إلى خلافها، فيجعلون البدعة سنة والسنة بدعة.
إن جردت التوحيد، قالوا: تنقصت الأولياء الصالحين، وإن جردت المتابعة للرسول، قالوا: أهدرت الأئمة المتبوعين، وإن وصفت الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير غلو ولا تقصير، قالوا: أنت من المشبهين، وإن أمرت بما أمر الله ورسوله من المعروف ونهيت عن المنكر، قالوا: أنت من المفتين، وإن اتبعت السنة وتركت ما خالفها قالوا: أنت من الملبسين، وإن تركت ما أنت عليه واتبعت أهواءهم، فأنت عند الله من الخاسرين وعندهم من المنافقين، فالحزم كل الحزم التماس مرضات الله ورسوله بإغضابهم وألا تبالي بذمهم ولا بغضبهم فإنه عين كمالك كما قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ *** فهي الشهادةُ لي بأني فاضلُ
وقد زادني حباً لنفسي بأنني *** بغيض إلى كل امرئ غير طائلُ
فمن كان بواب قلبه وحارسه من هذه المداخل الأربعة التي هي أصل بلاء العالم: وهي فضول النظر والكلام والطعام والمخالطة، واستعمل ما ذكرناه من الأسباب التسعة التي تحرز بها من الشيطان، فقد أخذ بنصيبه من التوفيق وسد على نفسه باب جهنم وفتح له باب الرحمة، ويوشك أن يحمد عند الممات عاقبة هذا الدواء فعند الممات يحمد العبد التقي، وعند الصباح يحمد القوم السري، والله الموفق لا رب غيره ولا إله سواه.
هذا آخر الكلام على السورتين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه خاتم النبيين والمرسلين.
الإمام محمد بن عبد الوهاب
http://www.islamselect.com/mat/28891
—
فريق جوال الخير
معاً على طريق الخير
تواصل- استفسار- اقتراح
www.jawalk.ws
0558118112
jawalk4@hotmail.com
الإصدار السابع
ويمكنكم زيارة مقرنا في مكتب الدعوة بحي الروضة بالرياض
هاتف وفاكس:
012401132
التعليقات 0